فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

وقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} آية وعد للمؤمنين، قال سفيان بن عبد الله الثقفي، قلت للنبي عليه السلام: أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: «قل ربي الله ثم استقم قلت فما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه فقال: هذا».
واختلف الناس في مقتضى قوله: {ثم استقاموا} فذهب الحسن وقتادة وجماعة إلى أن معناه: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي، وتلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال: استقاموا والله لله بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب.
قال القاضي أبو محمد: ذهب رضي الله عنه إلى حمل الناس على الأتم الأفضل، وإلا فلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب ألا تنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة وذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجماعة معه إلى أن المعنى {ثم استقاموا} على قولهم: {ربنا الله}، فلم يختل توحيدهم ولا اضطرب إيمانهم. وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام. المعنى فهو في أول درجات الاستقامة من الخلود، فهذا كقوله عليه السلام: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» وهذا هو المعتقد إن شاء الله، وذلك أن العصاة من أمة محمد عليه السلام وغيرها فرقتان: فأما من قضى الله بالمغفرة له وترك تعذيبه، فلا محالة ممن تنزل عليه الملائكة بالبشارة، وهو إنما استقام على توحيده فقط، وأما من قضى الله بتعذيبه مرة ثم بإدخاله الجنة، فلا محالة أنه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه، وليس يصح أن يكون حاله كحالة الكافر اليائس من رحمة الله، وإذ قد كان هذا فقد حصلت له بشارة بأن لا يخاف الخلود ولا يحزن منه وبأنه يصير آخرًا إلى الخلود في الجنة، وهل العصاة المؤمنون إلا تحت الوعد بالجنة، فهم داخلون فيمن يقال لهم: {أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} ومع هذا كله فلا يختلف أن الموحد المستقيم على الطاعة أتم حالًا وأكمل بشارة، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى نحو ذلك قال سفيان: {استقاموا}، عملوا بنحو ما قالوا، وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال الفضيل زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وبالجملة فكلما كان المرء أشد استعدادًا كان أسرع فوزًا بفضل الله تعالى.
وقوله تعالى: {ألا تخافوا ولا تحزنوا} أمنة عامة في كل هم مستأنف، وتسلية تامة عن كل فائت ماض. وقال مجاهد: المعنى لا تخافون ما تقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم. وفي قراءة ابن مسعود: {الملائكة لا تخافوا} بإسقاط الألف، بمعنى يقولون لا تخافوا.
{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)} المتكلم ب {نحن أولياؤكم} هم الملائكة القائلون: {لا تخافوا ولا تحزنوا} أي يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق نحن كنا أولياءكم في الدنيا ونحن هم في الآخرة. قال السدي المعنى: نحن حفظَتكُم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة، والضمير في قوله: {فيها} عائد على الآخرة. و: {تدعون} معناه: تطلبون. و: {نزلًا} نصب على المصدر. وقراءة الجمهور: بضم الواو. وقرأ أبو حيوة: بإسكانها.
وقوله تعالى: {ومن أحسن قولًا} الآية ابتداء توصية محمد عليه السلام، وهو لفظ يعم كل من دعا قديمًا وحديثًا إلى الله تعالى وإلى طاعته من الأنبياء والمؤمنين، والمعنى: لا أحد أحسن قولًا ممن هذه حاله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة، وبين أن حالة محمد عليه السلام كانت كذلك مبرزة إلى تخصيصه بالآية ذهب السدي وابن زيد وابن سيرين. وقال قيس بن أبي حازم وعائشة أم المؤمنين وعكرمة: نزلت هذه الآية في المؤذنين. قال قيس: {وعمل صالحًا} هو الصلاة بين الآذان والإقامة. وذكر النقاش ذلك عن ابن عباس، ومعنى القول بأنها في المؤذنين أنهم داخلون فيها، وأما نزولها فبمكة بلا خلاف ولم يكن بمكة آذان وإنما ترتب بالمدينة، وأن الآذان لمن الدعاء إلى الله تعالى ولكنه جزء منه. والدعاء إلى الله بقوة كجهاد الكفار وردع الطغاة وكف الظلمة وغيره أعظم غناء من تولي الاذان إذ لا مشقة فيه والأصوب أن يعتقد أن الآية نزلت عامة. قال زيد بن علي المعنى: دعا إلى الله بالسيف.
وقرأ الجمهور: {إنني} بنونين. وقرأ ابن أبي عبلة: {إني} بنون واحدة.
وقال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنًا في أصحاب ابن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أكملت الآذان فقل: {إنني من المسلمين} ثم تلا هذه الآية.
ثم وعظ تعالى نبيه عليه السلام ونبهه على أحسن مخاطبة، فقرر أن الحسنة والسيئة لا تستوي، أي فالحسنة أفضل، وكرر في قوله: {ولا السيئة} تأكيدًا ليدل على أن المراد: ولا تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة، فحذف اختصارًا ودلت {لا} على هذا الحذف.
وقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن} آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم، والمعنى: ادفع أمورك وما يعرضك مع الناس ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن السير والفعلات، فمن ذلك بذل السلام، وحسن الأدب، وكظم الغيظ، والسماحة في القضاء والاقتضاء وغير ذلك. قال ابن عباس: إذا فعل المؤمن هذه الفضائل عصمه الله من الشيطان وخضع له عدوه، وفسر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسلام عند اللقاء، ولا شك أن السلام هو مبدأ الدفع بالتي هي أحسن وهو جزء منه، ثم قال تعالى: {كأنه ولي حميم} فدخل كاف التشبيه لأن الذي عنده عداوة لا يعود وليًا حميمًا، وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم.
والحميم: هو القريب الذي يحتّم للإنسان. والضمير في قوله: {يلقاها} عائد على هذه الخلق التي يتضمنها قوله: {ادفع بالتي هي أحسن}. وقالت فرقة: المراد: وما يلقى لا إله إلا الله، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ.
وقوله: {إلا الذين صبروا} مدح بليغ للصبر، وذلك بينّ للمتأمل، لأن الصبر للطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها. والحظ العظيم: يحتمل أن يريد من العقل والفضل، فتكون الآية مدحًا. وروي أن رجلًا شتم أبا بكر الصديق بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فسكت أبو بكر ساعة، ثم جاش بها لغضب فرد على الرجل، فقام النبي عليه السلام فاتبعه أبو بكر وقال: يا رسول الله قمت حين انتصرت، فقال إنه كان يرد عنك ملك، فلما قربت تنتصر، ذهب الملك وجاء الشيطان، فما كنت لأجالسه، ويحتمل أن يريد: {ذو حظ عظيمٍ} من الجنة وثواب الآخرة، فتكون الآية وعدًا، وبالجنة فسر قتادة الحظ هنا.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} {إما} شرط، وجواب الشرط قوله: {فاستعذ}. والنزغ: فعل الشيطان في قلب أو يد من إلقاء غضب وحقد أو بطش في اليد، فمن الغضب هذه الآية، ومن الحقد، قوله: {نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف: 100]، ومن البطش قول النبي عليه السلام: «لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار».
وندب تعالى في هذه الآية المتقدمة إلى مكارم الخلق في الدفع بالتي هي أحسن، ثم أثنى على من لقيها ووعده، وعلم أن خلقة البشر تغلب أحيانًا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان فدلهم على مذهب ذلك وهي الاستعاذة به عز وجل.
ثم عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر {الليل والنهار}، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما. ثم قال تعالى: {لا تسجدوا} لهذه المخلوقات وإن كانت تنفعكم، لأن النفع منهما إنما هو بتسخير الله إياهما، فهو الذي ينبغي أن يسجد له. والضمير في: {خلقهن} قالت فرقة: هو عائد على الأيام المتقدم ذكرها. وقالت فرقة: الضمير عائد على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث، فلذلك قال: {خلقهن}.
قال القاضي أبو محمد: ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام، ساغ أن يعود الضمير مجموعًا.
وقالت فرقة: هو عائد على الأربعة المذكورة، وشأن ضمير ما لا يعقل إذا كان العدد أقل من العشرة أن يجيء هكذا، فإذا زاد أفرد مؤنثًا، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ومنه: {إن عدة الشهور} [التوبة: 36]، ومنه قول حسان بن ثابت:
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وقال السموأل: الطويل:
ولا عيب فينا غير أن سيوفنا ** بها من قراع الدارعين فلول

وهذا كثير مهيع وإن كان الأمر يوجد متداخلًا بعضه على بعض، ثم خاطب تعالى بما يتضمن وعيدهم وحقارة أمرهم، وأن الله تعالى غير محتاج إلى عبادتهم بقوله: {فإن استكبروا} الآية.
وقوله: {فالذين} يعني بهم الملائكة هم صافون يسبحون. و: {عند} في هذه الآية ليست بظرف مكان وإنما هي بمعنى المنزلة والقربة، كما تقول زيد عند الملك جليل وفي نفسه رفيع. ويروى أن تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنفس لابن آدم. و: {يسئمون} معناه: يميلون. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله} شروعٌ في بيانِ حُسنِ أحوالِ المؤمنينَ في الدُّنيا والآخرةِ بعد بيانِ سوءِ حالِ الكفرةِ فيهَما، أيُ قالُوه اعترافًا بربوبيتِه تعالَى وإقرارًا بوحدانيتِه {ثُمَّ استقاموا} أي ثبتُوا على الإقرارِ ومقتضياتِه على أن ثمَّ للتراخِي في الزمانِ أو في الرتبةِ فإنَّ الاستقامةَ لها الشأنُ كلُّه، وما رُويَ عن الخلفاءِ الراشدينَ رضي الله تعالى عنْهُم فِي معناهَا من الثباتِ على الإيمانِ وإخلاصِ العملِ وأداءِ الفرائضِ بيانٌ لجزئياتِها {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة} من جهتِه تعالَى يُمدونُهم فيما يَعِنُّ لهم من الأمورِ الدينيةِ والدنيويةِ بما يشرح صدورَهُم ويدفعُ عنهم الخوفَ والحزنَ بطريقِ الإلهامِ، كما أن الكفرةَ يُغويهم ما قُيضَ لهم من قرناءِ السوءِ بتزيينِ القبائحِ، وقيلَ: تتنزلُ عندَ الموتِ بالبُشرى، وقيلَ: إذَا قامُوا من قبورِهم، وقيلَ: البُشرى في مواطنَ ثلاثةٍ: عندَ الموتِ وفي القبرِ وعند البعثِ، والأظهر هو العمومُ والإطلاقُ كما ستعرفُه {أَلاَّ تَخَافُواْ} ما تُقْدمونَ عليهِ، فإن الخوفَ غمٌّ يلحقُ لتوقعِ المكروِه {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على ما خلّفتُم، فإنه غمٌّ يلحقُ لوقوعِه، من فواتِ نافعٍ أو حصولِ ضارّ وقيلَ: المرادُ نهيُهم عن الغمومِ على الاطلاقِ والمَعنْى الله أن تعالى كتبَ لكُم الأمنَ من كلِّ غمَ فلنْ تذوقُوه أبدًا.
وأنْ إمَّا مفسرةٌ أو مخففةٌ من الثقيلةِ والأصلُ بأنَّه لا تخافُوا، والهاءُ ضميرُ الشأنِ. وقُرئ {لا تخافُوا} أيْ يقولونَ لا تخافُوا على أنه حالٌ منَ الملائكةِ أو استئنافٌ {وَأَبْشِرُواْ} أي سُرُّوا {بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدُّنيا على ألسنةِ الرُّسلِ، هَذا منْ بشاراتِهم في أحدِ المواطنِ الثلاثةِ.
وقولُه تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الحياة الدنيا} إلخ من بشاراتِهم في الدُّنيا، أي أعوانُكم في أمورِكم نُلهمكُم الحقَّ، ونُرشدكَم إلى ما فيهِ خيرُكُم وصلاحُكُم، ولعلَّ ذلكَ عبارةٌ عما يخطرُ ببال المؤمنينَ المستمرينَ على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالَى وتأييدهِ لهم بواسطة الملائكةِ عليهم السلام.
{وَفِى الأخرة} نمدكُم بالشفاعة ونتلقاكُم بالكرامةِ حينَ يقعُ بينَ الكفرةِ وقرنائِهم ما يقعُ من التعادِي والخصامِ {وَلَكُمْ فِيهَا} أي في الآخرة {مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من فنون الطيباتِ {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تتمنَّون. افتعالٌ منَ الدُّعاء، بمعنى الطلبِ أي تدَّعون لأنفسِكم وهو أعمُّ من الأول، ولكُم في الموضعينِ خبرٌ ومَا مبتدأٌ. وفيها حالٌ من ضميره في الخبرِ، وعدمُ الاكتفاءِ بعطفِ ما تدَّعُون عَلى ما تشتهِي للإشباعِ في البشارة والإيذانِ باستقلالِ كلِّ منهما {نُزُلًا مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} حالٌ مما تدَّعون مفيدةٌ لكون ما يتمنَّونَهُ بالنسبة إلى ما يُعطَون من عظائم الأجورِ كالنزل للضيفِ.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مّمَّن دَعَا إِلَى الله} أي إلى توحيده تعالى وطاعته. عن ابن عباس رضي الله عنهما: هُو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعَا إلى الإسلام، وعنْهُ أنهم أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. وقيلَ: نزلتْ في المؤذّنين، والحقُّ أنَّ حُكمَها عامٌّ لكلِّ من جمعَ ما فيها من الخصال الحميدةِ، وإنْ نزلتْ فيمَنْ ذُكِرَ {وَعَمِلَ صالحا} فيما بينَهُ وبينَ رِّبه {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين} ابتهاجًا بأنه منهُم أو اتخاذًا للإسلامِ دينا ونِحلةً من قولِهم هذا قولُ فلانٍ أي مذهبُه لا أنَّه تكلَّم بذلكَ. وقُرئ {إنِّي} بنونٍ واحدةٍ.
{وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان محاسنِ الأعمالِ الجاريةِ بين العبادِ إثرَ بيانِ محاسنِ الأعمالِ الجاريةِ بين العبدِ وبين الربِّ عزَّ وجل ترغيبًا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصبرِ على أذية المشركين، ومقابلةِ إساءتِهم بالإحسان، أي لا تستوي الخَصلةُ الحسنة والسيئةُ في الآثار والأحكام. ولا الثانيةُ مزيدةٌ لتأكيدِ النَّفي، وقولُه تعالى: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} إلخ استئنافٌ مبيِّن لحسن عاقبةِ الحسنةِ، أي ادفعْ السيئةَ حيثُ اعترضتْكَ من بعضِ أعاديكَ بالتي هيَ أحسنُ ما يمكنُ دفعُها به من الحسناتِ كَالإحسان إلى مَنْ أساءَ فإنه أحسنُ منَ العفوِ، وإخراجُه مُخرجَ الجوابِ عنْ سؤالِ منْ قالَ كيفَ أصنعُ للمبالغةِ ولذلكَ وضعَ أحسنُ موضعَ الحسنةِ.
وقوله تعالى: {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} بيانٌ لنتيجة الدفعِ المأمورِ بهِ، أيْ فإذَا فعلتَ ذلكَ صارَ عدوُّك المُشاقُّ مثلَ الوليِّ الشفيقِ {وَمَا يُلَقَّاهَا} أيُ ما يُلقَّ هذهِ الخَصلةَ والسجيةَ التي هي مقابلُة الإساءةِ بالإحسانِ {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي شأنُهم الصبرُ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} من الخيرِ وكمالِ النفسِ، وقيلَ: الحظُّ العظيم: الجنةُ، وقيلَ: هو الثوابُ. قيلَ: نزلتْ في أبي سفيانَ بنِ حربٍ وكانَ مؤذيًا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فصارَ وليًا مصافيًا {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} النزغُ والنسغُ بَمعْنى وهو شبه النخْسِ، شُبِّه بهِ وسوسةُ الشيطانِ لأنَّها بعثٌ على الشرِّ، وجُعلَ نازعًا على طريقةِ جدِّ جِدُّه، أو أريدَ: وإمَّا ينزغنَّكَ نازغٌ وصفًا للشيطانِ بالمصدرِ أيْ وإن صرفكَ الشيطانُ عمَّا وُصَّيتَ به من الدفعِ بالتي هي أحسنُ {فاستعذ بالله} من شرِّه ولا تُطِعْهُ {إِنَّهُ هُوَ السميع} باستعاذتِك {العليم} بنيتكَ أو بصلاحِكَ. وفي جَعْلِ تركِ الدفعِ بالأحسنِ منْ آثار نزغاتِ الشيطانِ مزيدُ تحذيرٍ وتنفيرٍ عنه.
{وَمِنْ ءاياته} الدالةِ على شؤونِه العظيمةِ {وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل} كلٌّ منَها مخلوقٌ منْ مخلوقاتِه مسخرٌ لأمرِه {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} لأنهما من جملةِ مخلوقاتِه المسخرةِ لأوامرِه مثلَكُم {واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} الضميرُ للأربعةِ لأنَّ حُكَم جماعة ما لا يعقلُ حكمُ الأنثى أو الإناثِ، أو لأنها عبارةٌ عن الآياتِ. وتعليقُ الفعلِ بالكل مع كفايةِ بيانِ مخلوقيةِ الشمسِ والقمرِ للإيذان بكمال سقوطِهما عن رتبة المسجوديةِ بنظمهما في المخلوقية في سلك الأعراضِ التي لا قيامَ لها بذاتها، وهو السرُّ في نظم الكلِّ في سلك آياتِه تعالى: {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن السجودَ أقصى مراتبِ العبادةِ فلابد من تخصيصه به سبحانَهُ. وهو موضعُ السجودِ عند الشافعيِّ رحمَهُ الله وعندَنا آخرُ الآيةِ الأُخْرى لأنَّه تمامُ المعْنى.
{فَإِنِ استكبروا} عن الامتثالِ {فالذين عِندَ رَبّكَ} من الملائكة {يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} أي دائمًا {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} لا يفترُون ولا يَملّون. وقُرئ {لا يِسْأمُون} بكسرِ الياءِ. اهـ.